قوله تعالى : (ثم استوى على العرش) الاعراف : 54 . قال الخليل بن أحمد :
العرش : السرير ، فكل سرير ملك يسمى عرشا ، والعرش مشهور عند العرب في
الجاهلية والاسلام قال الله تعالى : (ورفع أبويه على العرش) يوسف : 100 .
وقال تعالى : (أيكم يأتيني بعرشها) النحل : 38 .
واعلم أن الاستواء في اللغة على وجوه منها : الاعتدال . قال بعض بني تميم
فاستوى ظالم العشيرة والمظلوم . أي اعتدلا ، والاستواء : تمام الشئ قال
الله تعالى : (ولما بلغ أشده واستوى) القصص : 14 ، أي تم .
والاستواء : القصد إلى الشئ قال تعالى : (ثم استوى إلى السماء) البقرة : 29 . أي قصد خلقها ،
وروى إسماعيل بن أبي خالد الطائي قال : العرش ياقوتة حمراء .
قلت : وجميع السلف على امرار هذه الآية كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل
(52) . قال عبد الله بن وهب : كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال : يا أبا
عبد الله (الرحمن على العرش استوى) كيف استوى ؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء
ثم رفع رأسه فقال : الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا يقال له كيف
، وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعة فأخرجوه فأخرج .
وقد حمل قوم من المتأخرين هذه الصفة على مقتضى الحس فقالوا : " استوى على
العرش بذاته " ، وهي زيادة لم تنقل (53) ، إنما فهموها من إحساسهم ، وهو
ان المستوي على الشئ إنما تستوي عليه ذاته ، قال أبو حامد (المجسم) :
الاستواء مماسته وصفة لذاته ، والمراد به القعود ، قال : وقد ذهبت طائفة
من أصحابنا إلى أن الله سبحانه وتعالى على عرشه قد ملاه ، وأنه يقعد ،
ويقعد نبيه صلى الله عليه وسلم معه على 54) يوم القيامة . قال أبو حامد :
والنزول هو انتقال . قلت : وعلى ما حكى تكون ذاته أصغر من العرش (55)
فالعجب من قول هذا ، ما نحن مجسمة . . ؟ ؟ ! !
وقيل لابن الزاغوني (المجسم) : هل تجددت له صفة لم تكن له بعد خلق العرش .
. ؟ قال : لا إنما خلق العالم بصفة التحت ، فصار العالم بالاضافة إليه
أسفل فإذا ثبت لاحدى الذاتين صفة التحت تثبت للاخرى صفة استحقاق الفوق قال
: وقد ثبت أن الاماكن ليست في ذاته ، ولا ذاته فيها ، فثبت انفصاله عنها ،
ولا بد من شئ يحصل به الفصل ، فلما قال : (ثم استوى) علمنا اختصاصه بتلك
الجهة . قال ابن الزاغوني (المجسم) : ولا بد أن تكون لذاته نهاية وغاية
يعلمها . قلت : وهذا رجل لا يدري ما يقول لانه إذا قدر غاية وفصلا بين
الخالق والمخلوق فقد حدده ، وأقر بأنه جسم ، وهو يقول في كتابه : إنه ليس
بجوهر ، لان الجوهر ما تحيز ثم يثبت له مكانا يتحيز فيه .
قلت : وهذا كلام جهل من قائله ، وتشبيه محض ، فما عرف هذا الشيخ ما يجب
للخالق ، وما يستحيل عليه . فإن وجوده تعالى ليس كوجود الجواهر والاجسام
التي لا بد لها من حيز ، والتحت والفوق إنما يكون فيما يقابل ويحاذي ، ومن
ضرورة المحاذي أن يكون أكبر من المحاذي أو أصغر أو مثله ، وان هذا ومثله
إنما يكون في الاجسام ، وكل ما يحاذي الاجسام يجوز أن يمسها ، وما جاز
عليه مماسة الاجسام ومباينتها فهو حادث ، إذ قد ثبت أن الدليل على حدوث
الجواهر قبولها للمباينة والمماسة . فإذا أجازوا هذا عليه ، قالوا بجواز
حدوثه ، وإن منعوا جواز هذا عليه ، لم يبق لنا طريق لاثبات حدوث الجواهر ،
ومتى قدرناه مستغنيا عن المحل والحيز ومحتاجا إلى الحيز ، ثم قلنا ، إما
أن يكونا متجاورين أو متباينين ، كان ذلك محالا . فإن التجاور والتباين من
لوازم التحيز في المتحيزات ، وقد ثبت أن الاجتماع والافتراق من لوازم
المتحيز ، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالتحيز ، لانه إن كان متحيزا لم
يخل إما أن يكون ساكنا في حيزه ، أو متحركا عنه ، ولا يجوز أن يوصف بحركة
ولا سكون ، ولا اجتماع ولا افتراق ، وما جاور أو باين فقد تناهى ذاتا ،
والمتناهي إذا خص بمقدار ، استدعى مخصصا ، وكذا ينبغي أن يقال ، ليس بداخل
في العالم وليس بخارج منه ، لان الدخول والخروج من لوازم المتحيزات وهما
كالحركة والسكون وسائر الاعراض التي تختص بالاجرام . وأما قولهم : خلق
الاماكن لا في ذاته ، فثبت انفصاله عنها . قلنا : ذاته تعالى لا تقبل أن
يخلق فيها شئ ، ولا أن يحل فيها شئ ، والفصل من حيث الحس يوجب عليه ما
يوجب على الجواهر ، ومعنى الحيز أن الذي يختص به يمنع مثله أن يوجد ،
وكلام هؤلاء كله مبني على الحس ، وقد حملهم الحس على التشبيه والتخليط حتى
قال بعضهم : إنما ذكر الاستواء على العرش لانه أقرب الموجودات إليه ! !
وهذا جهل أيضا . لان قرب المسافة لا يتصور إلا في حق الجسم .