يحض الإسلام أتباعه على إعداد القوة اللازمة للجهاد والتي ترهب أعداء
الله، وتحقق هيبة الدولة الإسلامية، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
ومن المؤكد
أن الأمويين قد أولوا جيوشهم عناية فائقة، حتى تمكنت تلك الجيوش من تحقيق
تلك الإنجازات الرائعة والفتوحات الضخمة في التاريخ الإسلامي، ورغم
المعلومات القليلة نسبيًّا عن الجيش الأموي مقارنةً بما نعرفه عن جيوش
إسلامية أخرى لم تحقق مثل إنجازاته؛ فإنه يمكننا أن نلتمس بعض جهود
الأمويين في إعداده وتجهيزه.
ولا ريب أن الأمويين كانوا
يستعيضون بالقوة الروحية العالية عند الجنود والقادة عن الوفرة العددية
وكفاية التسليح في جيوش الأعداء، فقد كانت جيوش الأمويين كثيرًا ما تواجه
عدوًّا كثير العدد، عظيم الجَلَد، متمرسًا على القتال، خبيرًا ببلاده
وطرقها وشعابه، ونظرةٌ واحدةٌ إلى مساحات البلاد المفتوحة والشعوب المختلفة
التي كانت تقطنها كفيلة ببيان ذلك، فأين أعداد العرب آنذاك وهم قِوَام
الجيش الإسلامي من أعداد أهل فارس وخراسان وما وراء النهر وأرمينية
وإفريقيا والمغرب والأندلس؟!! وأين أعداد جيش قتيبة مثلاً بجيوش خُرَاسَان
وما وراء النهر؟!! وأين قوة محمد بن القاسم الثقفي بقوة أهل الهند؟!! وكيف
نقارن أعداد جيش طارق بن زياد بأعداد جيوش الأسبان وهم يحاربونهم في
بلدهم؟!!
ولا ريب إذًا أن سعيدًا الحرشي القائد الأموي في
خُرَاسان لم يكن هو القائد الوحيد الذي يخطب في جنوده فيقول: "إنكم لا
تقاتلون بكثرة ولا بِعُدَّة، ولكن بنصر الله وعِزِّ الإسلام، فقولوا: لا
حول ولا قوة إلا بالله". ونظرًا لقلة ذلك العدد الذي يُكوِّنُ الجيوش
الإسلامية آنذاك، ونظرًا لتعاليم الإسلام نفسه، وتَدَيُّن الخلفاء والقادة،
فقد كان واضحًا أثناء الحروب مدى حرص الأمويين على سلامة جند الإسلام؛ ففي
عهد الوليد بن عبد الملك مثلاً -وهو العهد الذي شمل أعظم الفتوحات
الإسلامية- كان الخليفة الأموي يبدو مترددًا وهو يجيب على رسالة قائده موسى
بن نصير أمير إفريقية والمغرب، التي يذكر فيها عرض يوليان صاحب (سبتة)
مساعدة المسلمين في فتح الأندلس، فكتب الوليد إلى ابن نصير يقول: خُضْها
بالسرايا حتى تختبره، ولا تُغرِّر بالمسلمين في بحرٍ شديدِ الأهوال. فكتب
إليه موسى: "إنه ليس ببحر، وإنما هو خليج يصف صفة ما خلفه للناظر. فكتب
إليه الوليد: وإن يكن، فاختبره بالسرايا".
وكان المهلَّب
بن أبي صُفرة يغزو فينتصر، ثم يمسك عن المضي في التوغل إذا أحسَّ بالخطر
على جنده، ولا يستجيب للإغراء الداعي إلى مزيد من النصر، ويقول: ليت حظي من
هذه الغزوة سلامة هذه الجند، حتى يرجعوا سالمين.
أسلحة
الجيش الإسلاميوقد امتد هذا الحرص على جند المسلمين ليشملهم في حال
أَسْرِهم عند العدو، فقد اشترط مسلمة بن عبد الملك على ملك الروم عند غزو
بلاده أن يبني للمسلمين دارًا بإزاء قصره ينزلها الوجوه والأشراف إذا
أُسِرُوا؛ ليكونوا تحت كنفه وتعاهُدِه. فأجاب إلى ذلك وبنى دار البلاط، وقد
كان يسمح لأسارى المسلمين أن يَتَّجِروا، ولا يكرهون على أكل لحم الخنزير،
ولا يتعرضون للون من ألوان النكال التي كان يتعرض لها الأسارى آنذاك،
وكانت لهم أوقات يتجمعون للعب والترويح فيها.
وفي تلك
المرات التي تهيأ للجيش الأموي أسباب الإعداد المادي الكامل كانت قيادته
تضرب في ذلك المثل الرائع، حيث تمتد نظرتها لتشمل نواحي الحياة الخاصة
بآحاد الجند، فقد حشد الحجاج أربعين ألف رجل من أهل الكوفة والبصرة،
وأعطاهم أعطياتهم كاملة، وأمدهم بالخيول الروائع والسلاح الكامل، فكان ذلك
الجيش يسمى جيش الطواويس، وجعل وِجهَتَه سجستان لقتال رتبيل ملك الترك، غير
أن تجهيزه جيش محمد بن القاسم الثقفي الذي توجه لفتح السند كان أكثر
إثارة، حيث جهزه بكل ما يحتاج إليه حتى الخيوط والمسال، وعَمَدَ الحجاج إلى
القطن المحلوج فنُقِعَ في الخل، ثم جُفِّف في الظل وقال: "إذا صِرْتم إلى
السند فإن الخل بها ضَيِّق، فانقعوا هذا القطن في الماء، ثم اطبخوا به
واصطبغوا". وكانت المراسلات بين الحجَّاج ومحمد بن القاسم مستمرة، بحيث يصف
له محمد كل ما يلاقيه، ويستطلع رأيه فيه كل ثلاثة أيام.
الأمويون يطورون البحرية الإسلامية
كان
لمعاوية دور كبير في نشأة البحرية الإسلامية، التي استطاعت أن تنتزع في
عهد عثمان السيادة على بحر الروم في موقعة ذات الصواري، وكان لا بُدَّ من
مزيد من تطوير السفن الإسلامية كي يستطيع معاوية تحقيق حلمه في الاستيلاء
على القسطنطينية، وإنهاء وجود إمبراطورية الروم؛ ولذا فقد عمل على الإفادة
من خبرة قِبَط مصر في صناعة السفن، فأنشأ دارًا لصناعتها في جزيرة الروضة
حتى سميت آنذاك جزيرة الصناعة، وقد أسهم ذلك الأسطول الحربي في حصار
القسطنطينية مرتين في عهد معاوية سنة 50هـ، 53هـ: 60هـ.
وقد
أدَّى هذا الغزو البحري المتتابع إلى تكوين حسٍّ حربيًّ بحريٍّ كبيرٍ عند
المسلمين، حتى نجد إصرارا عند أبي المهاجر دينار على فتح قرطاجَنَّة على
الساحل الإفريقي لما يعلم من خطرها، ولكنه لم يفلح في ذلك، فلما استكمل
حسان بن النعمان فتح أفريقية كان يضع نُصْبَ عينيه الاستيلاء على هذه
القاعدة البحرية، وقد نجح في ذلك فهدم حصونها وأسوارها كيلا يفكر الروم في
العودة إليها مرة أخرى، وأثمرت هذه الخبرات المتتالية تفكيرًا جديًّا في
إنشاء قواعد بحرية إسلامية لأسطول في الشمال الإفريقي يقوم بمثل العبء الذي
كان يقوم به الأسطول الإسلامي في قواعده بالشام ومصر، وانتهى هذا التفكير
بجهود حسان بن النعمان أيضًا في إنشاء ميناء تونس جنوبي قرطاجنة، بعيدًا عن
متناول السفن البيزنطية.
ثم أمر عبد الملك بن مروان حسان
بن النعمان باتخاذ دار لصناعة السفن في تونس لإنشاء الآلات البحرية، وكتب
عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز والي مصر أن يوجه إلى تونس ألف قبطي بأهله
وولده لإنشاء دار صناعة فيها، أما مهمة البربر هناك فكانت أن يُجْرُوا
ويحملوا إلى دار الصناعة ما تحتاجه من خشب لصنع المراكب. وفي الحملة
الثالثة على القسطنطينية أيام سليمان بن عبد الملك سنة 98هـ كانت عدد قطع
الأسطول الإسلامي هناك 1800 سفينة، وقد أمر عمر بن عبد العزيز بعد ذلك بسحب
ذلك الجيش سنة 99هـ، ولكن ظلت تلك الجهود الأموية في بناء البحرية
الإسلامية نقطة تحول في التاريخ الإسلامي، حيث أصبح المسلمون في عهدهم أمة
بحرية، بل سادة البحار لعدة عقود من الزمان.
وقد قام الأمويون بجهود كبيرة في نشر الإسلام واللغة العربية في هذه البلدان المفتوحة على امتداد ساحات