بعد أن وصلت الجيوش الإسلامية إلى منطقة الأردن وسوريا جنوب دمشق بنحو
50 كلم، لم يحدث أي نوع من القتال، و تجمع جيش رومي قوامه 3 آلاف مقاتل من
غزة، بقيادة ( سرجيوس)، أراد أن يلتف حول المسلمين من الخلف، حتى يفاجأهم،
ويقطع المدد القادم من المدينة المنورة جنوبًا، فاتجه إلى منطقة ( العربة )
جنوب البحر الميت، وكانت عيون المسلمين منتشرة في المكان، فاستطاعت أن
تنقل ما حدث إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فأمد جيش يزيد ( الذي
كان قوامه 3 ألاف مقاتل ) بألف من المجاهدين ( من جيش شرحبيل بن حسنة )
فأصبح جيش يزيد 4 ألاف مقاتل، وأمره بالتوجه إلى العربة، قبل أن يتخطاها
جيش ( سرجيوس)، ودار بين الفريقين قتالٌ عنيف، وكان النصر- بفضل الله عز
وجل - للمسلمين.
ولا تُّعدُّ هذه الموقعة من المواقع الكبرى في حروب
المسلمين مع الروم،إذ إنها بين قوة إسلامية أكبر من قوة الروم ( 4 آلاف من
المسلمين، يواجهون 3 آلاف من الروم ) وعلى الرغم من هزيمة جيش الروم فيها،
إلا أنه لم يُقتل منه الكثير، وفرَّ معظمه عائدًا إلى غزة، وفي اليوم
التالي تتبع الجيش الإسلامي جيش الروم داخل الأراضي الفلسطينية، فقابله جيش
الروم في منطقة ( داثنة) شرق غزة، وحدث قتالٌ آخر، وانتصر فيه المسلمون
أيضًا.، وقتل من جيش الروم أحد قواده، وفر ( سرجيوس) إلى بيت المقدس، ثم
إلى دمشق شمالاً. وبعد انتصارالمسلمين في ( العربة ) و ( داثنة) عاد يزيد
بن أبي سفيان بقواته إلى معسكره مرة أخرى.
في الوقت ذاته يصل المدد
الذي أرسله أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى جيشي يزيد و أبي عبيدة، ثم
يأتي بطاركة العرب ( نصارى العرب الموجودن في المنطقة، وأكثرهم من قبائل
غسان ) وينضمون إلى جيش الروم، فزاد عدده مرة أخرى، وأرسل أبو عبيدة بذلك
إلى الصديق طالبًا المدد..
أسباب اختيار مسار الجيش:
ولهذا الاختيار حكمته وأهدافه التي نحاول أن نتبينها كما يلي:
1
ـ تواجدت الجيوش الإسلامية الثلاثة في شرق الشام حتى الآن ( بين بصرى
وعلياء جنوب دمشق ) فلم يبق إلا جنوب الشام، الذي إن حوصر فإن الروم
سيكونون بذلك محاصرين تمامًا، لأن البحر الأبيض المتوسط في الغرب، ولم يكن
هناك حروب بحرية آنذاك !
2ـ تأمين الجيش الإسلامي الموجود في شرق
الشام، كان إحدى غايات الصديق من هذا الجيش، لأنه منذ أيام حدثت موقعتا
العربة وداثنة، والتف جيش (جرجيوس) خلف الجيش الإسلامي، ولولا بعد نظر
العيون الإسلامية المنتشرة في المكان لفوجئ جيش المسلمين بذلك الأمر، ولكن
الله سلم، وبهذا الجيش يؤمَّنُّ الجيش الإسلامي الموجود في الشرق، ويقطع
الطريق على الرومان من الالتفات خلفه مرة أخرى.
4 ـ يوجد في منطقة (
أيلة) مسلمون من بعض البطون من قضاعة، وبعض القبائل الأخرى ( كجثام ) وهم
لم يخرجوا للجهاد قبل ذلك، لا ضد الفرس ولا ضد الروم، فيمر بهم جيش عمرو بن
العاص، لكي يحمسهم على الخروج للجهاد في سبيل الله، حتى يخرج منها من
استطاع، ويعمل ذلك على زيادة الصف المسلم.
5 ـ كان لتغيير مسار
الجيش الرابع أثر بالغ حتى لا يتمكن الروم من متابعة مسار الجيوش
الإسلامية، ولا يرصدون خط سير المسلمين، ( فإذا كانوا قد علموا بالجيوش
الثلاثة، وأنها مرت من تبوك، فلا يعرفون أمر هذا الجيش لأنه مر من طريق
مختلف تمامُا، وغير مأهول.. ) على الرغم من أن هذا الطريق أشد وعورة وخطورة
من الطريق الآخر المعروف المعتاد.
موقعة مَرْجُ الصُّفَّـر ووضع المسلمين بعدها:
في
الرابع من محرم عام 13هـ، تصل الأخبار إلى المسلمين أن عددًا من الروم قد
خرج من دمشق متجهًا لجيش أبي عبيدة لقتاله، وعرف المسلمون أنهم مجموعة
قليلة، وليسوا جيشًا كبيرًا، فأخرج لهم أبو عبيدة فرقة من جيشه، بقيادة (
خالد بن سعيد ) رضي الله عنه (الذي كان أبو بكر قد عينه قائدا عاما على
الجيوش ثم عزله لتسرعه في القتال بناءً على نصيحة عمر بن الخطاب)
مع أهله وقبيلته وعشيرته مع بعض المسلمين لقتال الروم جنوب دمشق، والتقى معهم خالد رضي الله عنه في ( مرج الصفر )
وكان
الروم بقيادة ( باهان) في مجموعة من الجنود توازي مجموعة خالد بن سعيد رضي
الله عنه، فتسرع خالد رضي الله عنه في قتالهم، ( وهو لا يجيد التخطيط
للحرب كما قال عنه عمر: "ضعيف التروءة " ) دون أن يحمي ظهره.
( كان
خالد بن الوليد رضي الله عنه، بعبقريته الفذة في القتال في حروب فارس ـ
مثلاًـ حريصًا كل الحرص على حماية ظهره حتى لا يلتف من خلفه أحد ) فالتف
جيش (باهان) الرومي حول المسلمين في ( مرج الصفر ) ففاجأهم وقاتلهم، وحدثت
مقتلة عظيمة، قُتِلَ فيهاكثير من المسلمين، واستشهد ( سعيد بن خالد بن سعيد
) في هذه المعركة، فلما قُتِلَ ابنه، تسرع ( خالد بن سعيد ) في الهروب (
رضي الله عنه )، فثبت بعض المسلمين مع سيدنا ( عكرمة بن أبي جهل ) وقاتلوا
باهان حتى ردوه عن ( مرج الصفر )، ولم يقتل عدد يذكر من جيش الروم،
فَعُدَّتْ هذه هزيمة لجيش المسلمين.، وهي أول هزيمة للمسلمين في الفتوحات
بشكل عام.... ( وظهر بذلك بُعْدُ نظر عمر رضي الله عنه، حينما عارض أبا بكر
في أن يقود خالد بن سعيد جيش المسلمين كله، وقال عنه:إنه " ضعيف التروءة
"، وفعلاً ظهر ذلك في هزيمة تلك الفرقة أمام الروم ) وأحدثت تلك الهزيمة
هزة نفسية للمسلمين في الشام، وفي المدينة المنورة، إذ وصلت الأنباء لأبي
بكر الصديق في المدينة، وحزن حزنًا شديدًا، وجمع حوله عمر بن الخطاب،
ومستشاريه لكي يقيموا الأمر من جديد.
وضع المسلمين آنذاك:
ـ
في الشام: انتصر المسلمون في العربة وداثنة، وهما موقعتان صغيرتان، وخسروا
في ( مرج الصفر )، جيش أبو عبيدة ( 7 ألاف مقاتل )، جيش شرحبيل ( 7 ألاف
مقاتل ) جيش يزيد ( 7ألاف مقاتل )، جيش عمرو بن العاص ( 3 آلاف مقاتل )..
أي أن جيش المسلمين بالشام 24ألف مقاتل. خرجوا في رجب 12 هـ، وهم الآن محرم
13 هـ، أي أنهم قد أمضوا ( 5 أشهر ) داخل الشام..
ـ في فـارس: عين
أبو بكر جيشين لفتح العراق من الجنوب بقيادة خالد بن الوليد، ومن الشمال
مرورا بدومة الجندل بقيادة عياض بن غنم، وقد مر عليهما عام في قتال الفرس،
التقى فيها خالد مع الفرس في موقعة كاظمة ( المعروفة بذات السلاسل )
وانتصرعليهم، ثم فتح الحيرة ( 9 مواقع في شهرين حتى فتح الحيرة )، وبينما
استعصت "دَوْمَة الجندل " على عياض بن غنم، تقدم خالد أيضًا وفتح الأنبار،
وعين التمر، وانتصر ( 18 ألف ضد 100 ألف من فارس )، ثم أُمِرَ أن يذهب
لنجدة عياض بن غنم في دومة الجندل !، فذهب إليه بـ9 آلاف، وانتصرعلى الفرس
هناك بعد يومين من وصوله، وفتح دومة الجندل ( كان ذلك في 24 رجب 12 هـ
)....
حقق جيش خالد بن الوليد انتصاراتٍ متتالية في فارس،حتى دانت
له السيطرة غرب الفرات دون قتال، وغدا مالكًا لكل أرض العراق حتى نهر دجلة،
كل ذلك في أقل من سنة.... إنجازٌ لا يتخيله عقل مما جعل الصديق رضي الله
عنه يفكر في إرسال خالد لقيادة قوات المسلمين في الشام، وكان عمر رضي الله
عنه يرفض ذلك، ويرى عزل خالد، حتى لا يقترن النصر في أذهان المسلمين بشخص
خالد بن الوليد رضي الله عنه،
ولكن أبا بكر اتخذ قرارًا حاسمًا بنقل سيدنا خالد من العراق لقيادة جيوش المسلمين في الشام..
موقف مُسْلِمَة الفتح:
وصل
الوفد إلى أبي بكر، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه عنده، فقالوا له: أما
أنت فقد برئت ذمتك منا، أما أنت يا عمر فلا نراك إلا قاطعًا.
فقال عمر: والله ما فعلت ذلك إلا عدلاً، وإني لأُفَضِّلُ من هو أفضل منكم.
فلم
يكن من "سهيل بن عمرو"رضي الله عنه إلا أن قال يخاطب أهل المجلس كله بما
فيه من المهاجرين والأنصار: فإن قلتم إنما فَضَلْتُمُونا بالجهاد في سبيل
الله، فوالله لنستكثرنَّ منه ( أي من الجهاد )، وأشهدكم أني حبيسٌ في سبيل
الله، ووالله لأقفنَّ مكان كل موقف وقفته على حرب رسول الله صلى الله عليه
وسلم موقفين على أعداء الله، ولأنفقن مكان كل نفقة أنفقتها على حرب رسول
الله، نفقتين في سبيل الله )، وهي منتهى الحكمة من هذا الصحابي الجليل رضي
الله عنه، إذ إنه رضي الله عنه يعلم أن المهاجرين والأنصار يفضلون أهل مكة
في كل شيء، في الصلاة والصيام والزكاة والذكر والطاعة، ويفضلونهم في
الجهاد، ولكنه يعلم أن هذا الجهاد هو الذي رفع درجتهم عاليًا...وخَصَّ
الجهاد لأنه ذروة سنام الإسلام.ومن حكمته أنه وجه حميته توجيهًا صحيحًا،
فلم ينطلق للتحدي، أو الانتصار لنفسه، ولكنه قال إنه سينافسهم فيما فضلوه
فيه،.. ونأخذ من حديثه أيضًا المسارعة في الخيرات، وأنه إذا حدثتك نفسك
بخير، فلا تؤخر ذلك الخير، فهاهو سهيل يتمنى لو كان قد أسلم مع المهاجرين
منذ البداية، ولكن هيهات !!... والله عز وجل يقول: (( وسابقوا إلى مغفرة من
ربكم ))، ويقول في صفة أهل الإيمان: ((كانوا يسارعون في الخيرات ))..
ويقول: (( لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من
الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلاً وعد الله الحسنى.. )) فمن ينفق في وقت
الضعف والحصار، أعظم ممن ينفق في وقت العز والتمكين، وكذلك من يجاهد في
حالة الضعف أعظم ممن يجاهد بعد أن استقرت الأمور وأصبح الإسلام قويًا..
(
ولا شك أن سهيل بن عمرو رضي الله عنه يتذكر الآن ما حدث بينه وبين رسول
الله، حينما كان يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفوف المشركين،
فسهيل هو الذي وقف لرسول الله في صلح الحديبية، وكان يعترض على ما يكتبه
الرسول في ورقة الصلح، فقال له: اكتب ( من محمد بن عبد الله..، لو كنت رسول
الله ما كتبنا هذه المعاهدة )،وهو الآن يندم على موقفٍ كهذا.. وهذا إشارة
لنا ألا نؤخر خيرًا قط راودتنا به أنفسنا، و نذكر موقف المخلفين الثلاثة في
غزوة تبوك، وكيف أن نياتهم كانت للخروج في سبيل الله، ولكنهم أخروا الخروج
يومًا بعد يوم، حتى تغلب عليهم الشيطان، ولم يخرجوا للجهاد في سبيل الله. )
بعد
أن خرج سهيل بن عمرو، وسادات قريش معه من عند أبي بكر الصديق، يلتفت سهيل
إليهم، ويقول: " لا تجزعوا مما ترون، فإنهم دُعُوا ودُعِينا؛ فأجابوا
وأبطأنا، ولو ترون فضائل من سبقكم إلى الإسلام عند الله عليكم، ما نفعكم
عَيْشٌ، وما من أعمال عند الله أفضل من الجهاد في سبيل الله، فانطلقوا حتى
تكونوا بين المسلمين وبين عدوهم، فتجاهدوهم دونهم حتى تموتوا (يلفت أنظارهم
إلى أنهم يجب أن يكونوا في مقدمة جيش المسلمين، وأن يقاتلوا ليس للنصر،
وإنما للشهادة في سبيل الله ) فعَلَّنا أن نبلغ بذلك فضل المجاهدين !"
و
هكذا بكل حكمة، ورغبة في الخير، يريد سهيل أن يقدم رضي الله عنه لله
ورسوله كل ما يستطيع، آملاً أن يحصل على أجر، وثواب من الله، ربما يوازي
ثواب المهاجرين الذين سبقوه إلى الإسلام.
عمرو بن العاص أمير على المدد:
بعد
أن وافق الصديق رضي الله عنه على خروج سادات قريش للجهاد في سبيل الله،
أخذ يفكر فيمن يضعه أميرًا عليهم، وكلهم سادات وأمراء، وكان من حكمته رضي
الله عنه، أنه لم يؤمر عليهم إلا سيدًا شريفًا مثلهم، حتى لا يوغر صدورهم،
فهم حديثو عهدٍ بالإسلام، ومتوجهون للجهاد في سبيل الله، وأمامهم معركة
شديدة مع الروم، فيجب أن تكون أنفسهم راضية تمامًا بمن سيؤمر عليهم، حتى
يسمعوا له ويطيعوا.
فوفقه الله لاختيار ( عمرو بن العاص ) رضي الله
عنه، وهو من أشراف العرب، وحكمائهم، ومن أفضل المقاتلين في الجاهلية
والإسلام، ( أسلم عام 7 هـ، بعد فتح خيبر، لم يمض على إسلامه أكثر من 6
سنوات، ولكن حسُنَ إسلامه، حتى أن رسول الله أَمَّره على غزوة "ذات السلاسل
"، وكان في جيشه- آنذاك - أبو عبيدة رضي الله عنه )
وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم قد بعثه جابيًا لصدقات المسلمين من قبائل "قضاعة" شمال
الجزيرة العربية قبل وفاته، واستدعاه أبو بكر في حروب الرِّدَّة، وأمره
على الجيش الخامس لمقاتلة مرتدي قضاعة، ولم يحدث قتال، فأعاده بعدالحرب إلى
جمع الصدقات منهم.
فأرسل الصديق رضي الله عنه خطابًا له يطلب منه المجيء لكي يقود الجيوش الإسلامية الخارجة من مكة، فقال له:
((
إني كنت قد رددتك إلى العمل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولاَّكه مرة، وقد أحببت ـ أبا عبد الله ـ أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك
ومعادك،إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك )) نلحظ في هذا الخطاب التأدب مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم، في هذا الخطاب يقول أن رسول الله كان قد
ولاه هذا الأمر، فهو يستحيي أن يعزله منه، ويوليه في أمر آخر - حتى وإن كان
هذا الأمر أفضل منه- دون استئذانه، مع أن هذا الأمر من رسول الله ليس
أمرًا تشريعيًا، ولكنه أمر يتغير بتغيرالأحوال، واختلاف الأمراء، لكن
الصديق في أدب مع رسول الله، يستأذن عمْرًا في أن يستجيب لطلبه، ويخاطبه
بكنيته ( أبو عبد الله ) فيناديه بأحب الأسماء إليه، ويقول له ( إلا أن
يكون ما أنت فيه أحب إليك)، وهذا من ذكاء الصديق رضي الله عنه، وهو يعلم
أنه بهذه المقولة، من الصعب جدًا على عمرو أن يفرض طلبه، وهذا ما حدث من
ابن العاص رضي الله عنه، إذ سَرْعَان ما اختار الجهاد في سبيل الله، وأرسل
للصديق يقول له: (( إني سهم من سهام الإسلام، وإنك بعد الله الرامي بها
والجامع لها،فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به شيئا إن جاءك من ناحية من
النواحي.. )) وجاء إلى المدينة في جيش من قضاعة، على الرغم من أن الصديق
لم يطلب منه ذلك، إلا أنه شعر أن من مسؤولياته الدعوة إلى الجهاد في سبيل
الله، (( في غزوة ذات السلاسل، كان عمرو قد أُمِّرَ على المسلمين، وعندما
وصل إلى ذات السلاسل وجد أن عدد المشركين في ذلك الوقت كبير، فطلب المدد من
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل له الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي
عبيدة مددًا، وقال له إذا أتيت عمروبن العاص فلا تختلفا، ولكنه لم يحدد له
من الذي سيقود الجيش، فلما جاءه أبو عبيدة، قال له عمرو: جئتني مددًا، ولم
يجعله أمير الجيوش، فلم يكن من أبي عبيدة إلا أن قال له: أمرني رسول الله
ألا نختلف، ولئن عصيتني لأطيعنك، ودخل تحت إمرة عمرو في تلك الغزوة )
وهنا
لا شك أن الصديق رضي الله عنه يذكر ذلك الموقف، وكذلك عمرا، وأبو عبيدة هو
أمير الجيوش في الشام، فمن الممكن أن يتكرر الموقف مرة أخرى، يقول أبو
بكر: (( يا عمرو؛ هؤلاء أشراف قومك يخرجون مجاهدين في سبيل الله، بائعين
أنفسهم لله، فاخرج فعَسْكِرْ حتى أندب الناس معك، فقال عمرو: يا خليفة رسول
الله ألستُ أنا الوالي على الناس؟ قال: بلى، أنت الوالي على من أبعثه معك
من ههنا؛ فقال: بل على من أُقْدِمُ عليه من المسلمين؛ فقال أبو بكر: لا،
ولكن أحد الأمراء فإن جمعتكم حرب فأبو عبيدة أميركم؛ فسكت عمرو.وكلنا نعلم
منزلة أبي عبيدة رضي الله عنه في الإسلام، وعند أبي بكر...
( ولكن
لماذا ولىَّ أبو بكر أبا عبيدة على الجيوش الإسلامية الأربعة، ولا يولي
عمرًا، مع أن عمرًا أحكم في القتال من أبي عبيدة وأقدر وأعلم بالحرب ؟ فأبو
عبيدة من المقاتلين المهرة، ولكن حكمة ودراية ابن العاص تفوقه، ولا شك !
نلاحظ أن الجيش الإسلامي في هذا الوقت كان جيش
الصديق يبحث عن المدد:
نفد
الرجال عند الصديق رضي الله عنه ( بعد أن أرسل كل من كان عنده من الرجال
في المدينة، وبعد أن استعان بأهل اليمن، فقرر الاستعانة بأهل مكة، الذين
يُعدُّون حديثي عهد بالإسلام ( أسلموا في فتح مكة، العام الثامن للهجرة )،
وكانوا قادة الكفر في الجاهلية، فكانت استعانة المسلمين بهم يجب أن تكون
على حذر، وقبل أن يرسل لهم الصديق رسالة للاستعانة بهم، كانوا يفكرون -من
تلقاء أنفسهم -في الخروج للجهاد في سبيل الله، ويعدون لذلك العدة، وأراد
الصديق رضي الله عنه أن يستفيد من خبرتهم في التعامل مع الروم ( في رحلات
التجارة ) في كيفية حربهم، بعد أن اطمأنَّ الصديق لإسلامهم، فتحدث إلى عمر
بن الخطاب رضي الله عنه، أن يرسل إلى رؤوس القبائل الموجودة بمكة، حتى
يعقدوا مجلسًا للشورى في كيفية إدارة القتال داخل أرض الروم، لكن عمر رفض
ذلك، وأصرَّ على ألا يستشيرهم الصديق، وقال: إنا كنا منذ قليل نقاتلهم،
وكانوا يقاتلوننا، وكانوا يعبدون من دون الله آلهة أخرى، فكيف إذا نصرنا
الله عليهم، وجاءت الغنيمة، جئنا بهم نستشيرهم ؟، فليس من العدل أن تقدم
هؤلاء على قدامى المسلمين من المهاجرين والأنصار،( فكان عمر يرى أن الأولى
بالمشورة، والأولى بالنصيحة هم هؤلاء المهاجرون والأنصار، مادامت لديهم
الحكمة، والخبرة في القتال، ولا نقدم عليهم الذين أتوا بعدهم، وكانوا
مقاتلين لرسول الله لأمد طويل ) فوافقه أبو بكر رأيه، وقال: إن كان ذلك
فنعم. ( وهذا من طبع الصديق رضي الله عنه، أنه لين الجانب، حسن الظن
بالمسلمين، فيريد أن يستشيرهم، ولكن عمر ينظر إلى الأمر من زاوية العدل،
والعدل يقتضي ألا يضيع حق من سبقوا بالإسلام.. )
وصل ذلك إلى سادة
القبائل في مكة، وعلموا أن أبا بكر كان يريد أن يستشيرهم، وأن عمر رفض ذلك،
فقال الحارث بن هشام ( وهو من كبار سادات قريش ): إن عمر بن الخطاب في
شدته علينا قبل أن نسلم كان مصيبًا، أما الآن فلا نراه إلا قاطعًا( يقصد
قاطعًا للرحم ) فرأى أن يجمع وفدًا منهم، ويذهبوا إلى الصديق لكي يعرضوا
عليه ذلك الأمر، وكان هو على رأس هذا الوفد، ومعه ( سهيل بن عمرو ) ( وهو
من أحكم العرب، في الجاهلية والإسلام