الدول الإسلامية المستقلة في الهند2/2ثم بدأت فترة حاسمة في تاريخ
الإسلام والمسلمين في شبه القارة الهندية؛ حيث تفكَّكَت إلى ستِّ دُول ذات
سيادة مستقلَّة؛ منها دولة السادات التي أسَّسها خضر خان حاكم لاهور- وهو
أحد السادات[1]- حيث جلست على عرش دِهْلَى نحو سبعة وثلاثين عامًا، كانت
كلُّها سنوات فِتَن واضطراب، واستقلَّت بعض أطراف الدولة، فاستقلت جنبور في
الشرق، ومالوا في الجنوب، وفَقَدَتْ دِهْلَى كثيرًا من سلطانها، وقد حكم
بعد خضر خان ثلاثة ملوك، لم يَتَعَدَّ سلطانُهم دِهْلَى، حتى جاءت أسرة
اللوديين[2].
فأعاد بهلول لودي أوَّل ملوك هذه الأسرة
(855-932هـ) - وهو من أسرة أفغانيَّة كانت تحكم لاهور، ومكث بهلول في الحكم
نحو سبعة وثلاثين عامًا - الرُّوح لعرش دِهْلَى، فجعل لاهور والولايات
التابعة التي كان يحكمها تابعة له، وقد حارب السلطان حسين شاه الشرقي ملك
جونبور، الذي هجم على دِهْلَى مرَّات بقصد الاستيلاء عليها، فكان نصيبه
الفشل، وقد وسَّع بهلول مُلْكَه من ناحية الجنوب في وسط الهند، وبذلك
استعادت سلطنة دِهْلَى مكانتها، وقد كان بهلول مَلِكًا صالحًا؛ يُجالس
العلماء ويُذَاكرهم في أمور الشريعة، ويبذل جهده في متابعة النبي صلى الله
عليه وسلم، وقد تُوُفِّيَ بهلول اللودي عام 894هـ، فجاء بعده مجموعة من
الأمراء، لعلَّ أفضلهم سيرة إسكندر شاه اللودي ( عادل نظام الدين ) فقد كان
من خِيرة السلاطين، تقيًّا، وَرِعًا، مجتهدًا في تطبيق العدالة بين
رعاياه، ثم جاء بعده ابنه السلطان إبراهيم اللودي، فلم يُحْسِن تدبير شئون
الدولة وسياستها، وقد قامت حرب بينه وبين أخيه جلال الدين، إلا أنها انتهت
بانتصاره وقَتْلِ أخيه، وفي أثناء هذه الثورات من أبناء الأسرة الواحدة،
كانت قوَّة المغول في الازدياد والقوَّة، فقد كانت تحكم كَابُل وما حولها،
فما أن تهيَّأتْ لبابر ملك المغول الفرصةُ حتى اقتنصها، فقد دخل دِهْلَى
عام 932هـ، بعد هزيمته لإبراهيم اللودي في معركة "باني بت" عام 932هـ فبدأ
حكم دولة إسلامية جديدة للهند وهي دولة المغول[3].
الدولة المغولية
وتُعْتَبَر
الدولة المغولية التي أسسها ظهير الدين محمد بابر ( 932-1274هـ) المملكة
الأخيرة للمسلمين في الهند، والتي وصلت بالحكم الإسلامي إلى أرقى صوره
وأقوى نُفُوذٍ له, ويُعْتَبَر ظهير الدين بابر من أعظم سلاطينها، فمنذ
وَلِي العرش في العام 899هـ، وحتى عام 933هـ لم يَقْضِ شهر رمضان عامين
متتاليين بمكان واحد[4]؛ لكثرة أسفاره وفتوحاته التي اخْتَتَمَها في نهاية
أمره بدخوله العاصمة الإسلامية دِهْلَى في عام 932هـ، بعد جهاد حافل طويل.
وحينما
بدأت الأمور تستقرُّ لبابر بعدما هزم التجمُّعَ الهندوسي المتعاهد مع
محمود اللودي، بدأ بابر يتَّجه للإصلاحات الداخلية، فمهَّد الطريق
للمسافرين، وأكثر مِن حَفْر التُّرَعِ، والأنهار، والقنوات، وغرس الأشجار،
وقد مهَّد الهندَ ووطَّأها في فترة وجيزة لم تتعدَّ خمس سنوات حتى عام
937هـ، وهو العام الذي تُوُفِّيَ فيه، وقد أوصى لابنه "همايون بن بابر" مِن
بَعْدِه[5].
وبعد همايون جاء ابنه جلال الدين أكبر (جلال الدين محمد بن همايون بن بابر )، وكان من أقوى ملوك المغول إدارة وحُكْمًا[6].
حيث
أخضع جلال الدين أكبر الكثيرَ من الإمارات الهندية تحت سطوته في الشمال
والجنوب، ففي عام 970هـ انفرد جلال الدين أكبر بحُكْم شبه القارة الهندية؛
ليبدأ عهدًا جديدًا، وكان عظيمَ الدهاء والحيلة؛ فقرَّب إلى جانبه زعماء
الهنادكة، وعهد إليهم بأعلى المناصب في الدولة، خشية وقوع الفتن
الطائفيَّة، فكان لا يُفَرِّق في المعاملة بين المسلمين والهنادكة، إلى
حدٍّ زاد فيه من عدد الأمراء الهنادكة في بلاطه من الأمراء المسلِمِينَ،
وكان من نتائج هذه السياسة أن انضمَّ إليه الهندوس، وتفانَوْا في خدمته،
وامتدَّت هذه السياسة إلى تزويجه ابنه سليم (نور الدين محمد جهانكير) من
امرأتين هندوكيتين، وسمح بأن يتزوج المسلمون بالهندوكيَّات[7].
فبهذه
السياسة السابقة في التقريب بين المسلمين والهندوس أصبحت مملكة "أكبر" من
الاتِّساع بحيث شملت الهندَ كلَّها، ما عدا الطرف الجنوبي من شبه الجزيرة
الذي كانت تحكمه ممالك بيجابور وكولكنده الإسلاميَّتين، وفيجايانكر
الهندوسية، التي كانت تقع في نهاية الجنوب، وكان رجوات الهند الذين يحكمون
وسطها في راجيوتانا وكواليار قد سلَّموا نهائيًّا لأكبر، بل كان الهندوس –
كما ذكر آنفًا - مِن أكثر المتحمِّسين لسياسات أكبر في المنطقة الهندية
كلها، وبهذا تألَّفت مملكة "أكبر" مِن هذه الولايات: كابُل، وقندهار،
والسند، ومُلْتَان، ولاهور، وكشمير، ودِهْلَى، وأكره، وأجمير، وإله أباد،
وأوده، وبهار، وبنغال، وأوريسه على ساحل خليج البنغال، ومالوا، وكَجَرَات،
وخنديس، وبرار، وأحمد نكر[8].
هذه السياسة المنفتحة من
جلال الدين أكبر جعلت الأطماع الغربية - والمتمثِّلة في حركات البرتغاليين
والهولنديين وكذلك الإنجليز - تبدأ في الظهور؛ ففي عهده تألَّفت شركة الهند
الإنجليزية عام (1009هـ=1600م)، وبدأ عملاؤها يتَّصلون بأكبر، وينالون منه
بعض الامتيازات التِّجاريَّة، كما أنه استقبل أوَّل سفير للملك جيمس الأول
في بلاطه وهو السير توماس رو[9].
أما ما يتعلق بالناحية
الدينية عند جلال الدين أكبر، فقد كانت أسرته ذات ثقافة إسلامية سُنِّيَّة
عريقة، وقد كان في بادئ أمره يذهب للعلماء والمشايخ ليتعلم على أيديهم، بل
كان يذهب إلى كهف قريب من قصره يتعبَّد فيه برموز صوفية معروفة، يرى في ذلك
أنه شكر لله تعالى على ما منَّ به من نعمة المُلْكِ والسلطان، لكنه أراد
أن يجعل الشعب الهندي في شبه القارة الهندية مواليًا له ولسياسته، فأنشأ
عقيدة جديدة سمَّاها التوحيد الإلهي؛ وهي دين جديد يجمع بين الأديان
والمذاهب كلها، فجمع بين التعاليم الإسلامية، واليهودية، والنصرانية،
والمجوسية، والوثنية[10].
وأكره جلالُ الدين الناسَ على اعتناق
الدين الجديد، فقام في وجهه رجل عظيم الإيمان هو الشيخ أحمد السرهندي،
فاتَّصل بالناس والقوَّاد والحاشية، ووجَّه الرسائل، وألهب الحماسة
الدينية، حتى يعود الناس لدينهم الحقّ[11].
أورانك زيب أعظم ملوك المغول
أورانك
زيب أعظم ملوك المغولوبعدما تُوُفِّيَ جلال الدين أكبر عام 1014هـ بعد حكم
استمرَّ خمسين عامًا، تولَّى الحكم ابنه شاهنجهان (قائد الدنيا)، فتعهَّد
الشيخ أحمد السرهندي أحدَ أبنائه بالتربية منذ طفولته، وهو (أورانك زيب)
الذي يُعَدُّ من أعظم ملوك المغول المسلمين في الهند بمواقفه المشهورة
المدافِعَة عن الإسلام.
فقد حكم (أورانك زيب) اثنين وخمسين
عامًا، لم تَخْلُ من المتاعب والحروب، بل كانت سلسلة متتابعة من الحروب
هنا وهناك، وكثيرًا ما كان الملك على رأس جيشه، يباشِر تأديب أعدائه بنفسه،
ويضمُّ ممالكَ جديدةً إلى رُقعة مملكته، حتى إنه لم يَعرِف طعم الراحة
والإقامة الهنيئة في عاصمة مُلْكِه[12].
وامتدَّت الدولة في عهده من
سفوح الهمالايا في الشمال إلى شواطئ البحر في الجنوب، ولكن حدثت في عهده
مجموعة من الثورات والحروب، مثل ثورة الراجبوت فقد نقضوا فيها عهدهم،
وامتنعوا عن دفع الجزية، فأرسل لهم الملك (أورانك زيب) ابنه محمد أكبر،
فقضى على ثورتهم عام 1090هـ، كما تمرَّد المراهتا على (أورانك زيب)، وهم
قوم لهم عاداتهم وتقاليدهم الخاصَّة، حيث يسكنون شمالاً من بومباي، وقد قضى
عليهم, لأنَّ أميرهم "سيفاجي" كان يتحيَّن فُرَصَ ضعف الدولة المغولية أو
انشغالها بحربها مع الدُّول أو الثورات الأخرى، ليُعْلِنَ العصيان على
الدولة، فصَكَّ النقود باسمه، بل ويهاجم قوافل الحجاج في مدينة "سورت"،
وكان الحُجَّاج يُبحِرُون منها للحجاز قبل ميناء بومباي، وظلَّ ثائرًا
محارِبًا للمغول حتى طلب العفو والصفح، فعفا عنه محمد أكبر، وأقطعه بعض
الأراضي في برار, وظلَّ (أورنك زيب) معنيًّا بالمراهتا في جسم الدولة حتى
انتهى من أمرهم تمامًا عام 1116هـ[13].
ومع انشغاله بهذه
الفتوحات العظيمة كان يَنْظُر في شئون الرعيَّة، فأزال كلَّ آثار الزندقة
التي أقرَّها "جلال الدين أكبر"، وعدَّل الضرائب ليُخَفِّفَ عن الضعفاء،
ومدَّ الطرق العظيمة، كما بنى المساجد في إنحاء الهند، وجعل لها أئمة
ومدرِّسين، وأسَّس دُورًا للعجزة، ومارستانات (مستشفيات) للمعتوهين
والمرضى، وأقام العدل في الأُمَّة, وطبَّق القانون على جميع الناس, كما
دوَّنَ الأحكام الشرعيَّة والفتاوى في كتاب واحد سمَّاه الفتاوى
الهندية[14].
وتوفي السلطان (أورانك زيب) عام 1118هـ في ميدان القتال عن عمر يناهز التسعين عامًا[15].
[1] طبقة لها مركزها الديني في المجتمع الهندي.
[2] عدنان علي رضا النحوي: ملحمة الإسلام في الهند ص54.
[3] عبد المنعم النمر: تاريخ الإسلام في الهند ص149، 150 بتصرف.
[4] أحمد محمود الساداتي: تاريخ المسلمين في شبه القارة الهندية، 2/41 بتصرف.
[5] عبد المنعم النمر: تاريخ الإسلام في الهند ص177 بتصرف.
[6] عدنان علي رضا النحوي: ملحمة الإسلام في الهند ص61.
[7] حازم محفوظ: ازدهار الإسلام في شبه القارة الهندية ص56 بتصرف.
[8] عبد المنعم النمر: تاريخ الإسلام في الهند ص209، 210 بتصرف.
[9] السابق، ص216 بتصرف.
[10] السابق ص221 بتصرف، وانظر: أحمد محمود الساداتي: السابق، 2/101 بتصرف.
[11] عدنان علي رضا النحوي: ملحمة الإسلام في الهند ص 61.
[12] عبد المنعم النمر: تاريخ الإسلام في الهند ص269.
[13] السابق ص 275, 280 بتصرف.
[14] عدنان علي رضا النحوي: ملحمة الإسلام في الهند ص 64.
[15] عبد المنعم النمر: تاريخ الإسلام في الهند ص280 بتصرف.