تسلَّم عبد الملك بن مروان بن الحكم حكم الخلافة الإسلامية بعهد من
أبيه وذلك في عام 65هـ، بيد أنه تسلمها والدولة تعصف بها رياح الفتن
والاضطرابات والانقسامات؛ فعبد الله بن الزبير يُسيطر على الحجاز والعراق
ومصر، وعبد الملك لا يملك من أمره إلا بلاد الشام؛ ولذلك بدأ في توحيد
الدولة تحت إمرته، فكانت أولى المناطق التي أراد أن يستعيد سيطرته عليها:
العراق ثم الحجاز.
استرداد العراق
بعث عبد الملك إلى
عبيد الله بن زياد يقرُّه على ما ولاّه عليه أبوه مروان في العراق، وتقدم
ابن زياد نحو العراق وهدفه إجلاء ولاة ابن الزبير، ولكنه اضطر إلى أن يغير
خطته، فقد ظهر في الميدان أعداء جدد لم يكونوا في حسبان ابن زياد وهم
(التوابون). انظر فلاشة عبد الملك بن مروان وإخماد الفتنة
والتوابون
مجموعة من الشيعة كان كثيرون منهم ممن كتبوا إلى الحسين بن علي وهو في مكة
بعد موت معاوية ليسير إليهم في الكوفة؛ فلما سار إليهم خذلوه وتخلوا عن
نصرته، وأسلموه إلى المصير المؤلم الذي إليه.
ولكن بعد
استشهاده هزتهم الفاجعة، وعضهم الندم على تقصيرهم نحوه، فلم يجدوا طريقة
يكفرون بها عن هذا التقصير الكبير، ويتوبون إلى الله بها من هذا الذنب
العظيم سوى الثأر للحسين بقتل قتلته، فسُمُّوا بذلك: التوابين، وتزعمهم
سليمان بن صرد الخزاعي، وسموه: أمير التوابين.
عَلِمَ
التوّابون بقدوم ابن زياد إلى العراق، فرأوا الخروج لقتاله وقتل ابن زياد
أخذًا بثأر الحسين، وكان عددهم في بادئ الأمر ستة عشر ألفًا، فلما جاء وقت
العمل الجاد نكصوا وتقاعسوا حتى وصل عددهم إلى أربعة آلاف، وحتى الآلاف
الأربعة الذين تجمعوا حول زعيم التوابين سليمان بن صرد تخلَّى عنه منهم ألف
وبقي معه ثلاثة آلاف فقط. أما جيش الشام فكان عدده ستين ألفًا عليهم عبيد
الله بن زياد أرسله مروان بن الحكم ليعيد العراق إلى سلطان الأمويين بعد أن
بسط حكمه على الشام، فالتقى بالتوابين في عين الوردة من أرض الجزيرة،
ودارت معركة غير متكافئة قُتِلَ فيها معظم التوابين وزعيمهم سليمان بن صرد،
وكان ذلك في ربيع الآخر سنة 65هـ، وفَرَّ الباقون عائدين إلى الكوفة
لينضموا إلى المختار الثقفي الذي انفرد بزعامة الشيعة، فقويت حركته وكثُر
أتباعه، ثم ازداد مركزه قوة بانضمام إبراهيم بن الأشتر النخعي إليه وهو من
زعماء الكوفة، فثار على عبد الله بن مطيع العدوي أمير الكوفة من قِبَلِ عبد
الله بن الزبير فأخرجه منها، وأحكم سيطرته عليها، ولكي يثبت صحة دعواه في
المطالبة بدم الحسين تتبع قتلته، فقتل معظمهم في الكوفة، ثم أعد جيشًا جعل
على قيادته إبراهيم بن الأشتر، وأرسله إلى قتال عبيد الله بن زياد، فالتقى
به عند نهر الخازر بالقرب من الموصل، وحلَّت الهزيمة بجيش ابن زياد الذي
خَرَّ صريعًا في ميدان المعركة سنة 67هـ.
وتعاظم نفوذ
المختار بعد انتصاره على ابن زياد، وسيطر على شمال العراق والجزيرة وأخذ
يولي العمال من قبله على الولايات ويجبي الخراج، وانضمَّ إليه عدد كبير من
الموالي لبغضهم لبني أمية من ناحية؛ ولأنه أغدق عليهم الأموال من ناحية
ثانية، وبدا كما لو أنه أقام دولة خاصة به في العراق، بين دولتي ابن الزبير
في الحجاز، وعبد الملك بن مروان في الشام، ولكنه لم ينعم طويلاً بهذه
الدولة.
كان المتوقع أن تكون نهاية المختار على يد عبد
الملك بن مروان الذي وتره بقتل ابن زياد أبرز أعوانه، ولكن عبد الملك كان
سياسيًّا حكيمًا، وقائدًا محنكًا، فقد ترك لابن الزبير مهمة القضاء على
المختار؛ لأن عبد الملك كان يعلم أن ابن الزبير لا بد أن يتحرك للقضاء
عليه، فهو لا يسمح لنفوذ المختار أن يتسع ويهدد دولته؛ فلذلك آثر عبد الملك
بن مروان الانتظار، لأن نتيجة المواجهة ستكون حتمًا في صالحه، فسوف يقضي
أحدهما على صاحبه ومن يبقى تكون قوته قد ضعفت فيسهل القضاء عليه.
وبالفعل
حدث ما كان توقعه عبد الملك بن مروان، فالمختار لم يكتفِ بانتصاره على جيش
عبد الملك وبَسْطِ نفوذه على شمال العراق والجزيرة، بل أخذ يُعِدُّ نفسه
للسير إلى البصرة لانتزاعها من مصعب بن الزبير الذي أصبح واليًا عليها من
قبل أخيه عبد الله بن الزبير، فسار مصعب بنفسه إلى المختار قبل أن يُعاجِله
في البصرة، والتقى به عند حروراء فدارت الدائرة على المختار فأسرع بالفرار
إلى الكوفة، وتحصن بقصر الإمارة، إلا أن مصعبًا حاصره في القصر حتى قُتِلَ
سنة 67هـ. وهكذا انتهت حركة هذا المغامر الذي كان همه الوصول إلى الحكم
بأية وسيلة، ولم تنفعه ادعاءاته بحب آل البيت والطلب بثأرهم، فقد انكشفت
حيله، وتخلى عنه أهل العراق وأسلموه إلى مصيره المحتوم.
وبعد
أن استعاد ابن الزبير سيطرته على العراق كان من الطبيعي أن يحدث الصدام
بينه وبين عبد الملك بن مروان، فعزم عبد الملك على السير إلى العراق
وانتزاعها من ابن الزبير وكان ذلك سنة 71هـ، وكان ذلك بعد أربع سنين من
القضاء على المختار. ولعل عبد الملك بن مروان أخَّر هذا الصدام بينه وبين
ابن الزبير إلى هذا الوقت؛ لكي يوطد دعائم حكمه في بلاد الشام، فقضى هذه
السنين في حل مشاكله مع زفر بن الحارث الكلابي الذي كان معتصمًا بقرقيسياء
مهددًا بذلك إقليم الجزيرة كله، وقد عالج عبد الملك مشكلة زفر بالحكمة
والسياسة، واصطلح معه، وأنهى بذلك مسألة قرقيسياء التي استمرت حوالي سبع
سنين كالشوكة في جنب دولته، وأحكم سيطرته على إقليم الجزيرة، ثم تخلص من
منافسه الخطير وهو عمرو بن سعيد الأشدق بقتله حيث نازعه الخلافة.
وبعد
أن اطمأن عبد الملك إلى استقرار حكمه ببلاد الشام توجه لقتال مصعب بن
الزبير فنزل عبد الملك "مسكن" وزحف مصعب نحو باجميرا وعلى مقدمة جيشه
إبراهيم بن الأشتر، ثم أخذ عبد الملك يكاتب زعماء أهل العراق من جيش مصعب
يعدهم ويمنيهم، بل إن عبد الملك بن مروان صرَّح أن كتب أهل العراق أتته
يدعونه إليهم قبل أن يكاتبهم هو -وهذا ليس غريبًا عن أهل العراق- وفي الوقت
الذي كان عبد الملك يكاتب فيه زعماء أهل العراق من قواد مصعب والذين قبلوا
التخلي عنه والانضمام إلى عبد الملك، كان حريصًا على ألا يقاتل مصعبًا
للمودة والصداقة القديمة التي كانت بينهما؛ فأرسل إليه رجلاً من كلب وقال
له:" أقرئ ابن أختك السلام -وكانت أم مصعب كلبية- وقل له: يَدَع دعاءه إلى
أخيه، وأدَعُ دعائي إلى نفسي، ويُجْعَل الأمرُ شورى. فقال له مصعب: قل له:
السيف بيننا". ثم حاول عبد الملك محاولة أخرى: فأرسل إليه أخاه محمدًا
ليقول له: "إن ابن عمك يعطيك الأمان". فقال مصعب: إن مثلي لا ينصرف عن مثل
هذا الموقف إلا غالبًا أو مغلوبًا".
ثم دارت معركة فبدأت
خيانات أهل العراق تظهر، فقد أَمَدَّ مصعب إبراهيم بن الأشتر بعتاب بن
ورقاء، وهو من الذين كاتبوا عبد الملك، فاستاء إبراهيم من ذلك وقال: "قد
قلت له لا تمدني بعتاب وضربائه، إنا لله وإنا إليه راجعون، فانهزم عتاب
بالناس". فلما انهزم صبر ابن الأشتر فقُتِل فكان قتله خسارة كبيرة لمصعب
لأنه فوق شجاعته كان مخلصًا له غاية الإخلاص، ثم تخلى أهل العراق عن مصعب
وخذلوه حتى لم يبق معه سوى سبعة رجال، ولكنه ظل يقاتل في شجاعة وبسالة حتى
أثخنته الجراح، وأخيرًا قتله زياد بن ظبيان، وكان مقتله في المكان الذي
دارت فيه المعركة على قصر دجيل عند دير الجاثليق في جمُادَى الآخرة سنة
72هـ، فلما بلغ عبد الملك مقتله قال: "واروه فقد والله كانت الحرمة بيننا
قديمة، ولكن هذا المُلْك عقيم". وبمقتل مصعب عادت العراق إلى حظيرة الدولة
الأموية، وعين عبد الملك أخاه بشرًا واليًا عليها، وقبل أن يغادرها أَعَدَّ
جيشًا للقضاء على عبد الله بن الزبير في مكة.
مقتل عبد الله بن الزبير
بعد
مقتل مصعب انحصرت دولة ابن الزبير في الحجاز، ولم يكن في استطاعته الصمود
لافتقاره إلى المال والرجال، كما أن مقتل أخيه مصعب قد فَتَّ في عَضُدِه
وأصابه بالإحباط، ولكنه لم يُلْقِ الراية، وظل يقاوم حتى النهاية.
جهز
عبد الملك بن مروان جيشًا قوامه عشرون ألفًا من أهل الشام وغيرهم بقيادة
الحجاج بن يوسف الثقفي، ووجهه لقتال ابن الزبير في مكة، فحاصر الحجاج ابن
الزبير، ونصب المنجنيق على الكعبة من جبل أبي قبيس، فلما أهَلَّ ذو الحجة
لم يستطع ابن الزبير أن يحج، وحَجَّ بالناس ابن عمر، وطلب من الحجاج أن يكف
عن ضرب الكعبة بالمنجنيق؛ لأنه قد منع الناس من الطواف، فامتثل الحجاج،
ولكن بعد فراغ الناس من طواف الفريضة نادى الحجاج في الناس أن يعودوا إلى
بلادهم، لأنه سيعود إلى ضرب البيت بالحجارة.
وبالفعل بدأ
يضرب الكعبة، وشدد على ابن الزبير وتحرَّج موقفه وانفضَّ عنه معظم أصحابه،
ومنهم ابناه حمزة وخبيب، اللذان ذهبا إلى الحجاج وأخذا منه الأمان
لنفسيهما، فلما رأى ذلك دخل على أمه فشكا إليها خذلان الناس له، وخروجهم
إلى الحجاج حتى أولاده وأهله، وأنه لم يبق معه إلا اليسير، ولم يبق لهم صبر
ساعة، وأن القوم يعطونه ما شاء من الدنيا، فقالت له: "يا بني، أنت أعلم
بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق فاصبر عليه فقد قُتِلَ عليه
أصحابُك، ولا تمكن من رقبتك يلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت تعلم أنك
إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت؟ أهلكت نفسك وأهلكت من قُتِلَ معك، وإن
كنت على حق فما وهن الدنيا، وإلى كم خلودك في الدنيا؟ القتال أحسن. فدنا
فقبل رأسها، وقال هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيًا إلى يومي هذا، وما
ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت البقاء فيها... ولكنني أحببت أن أعلم رأيك
فزدتني بصيرة مع بصيرتي، فانظري يا أمه فإني مقتول في يومي هذا، فلا يشتد
حزنك، وسلمي الأمر لله". فخرج من عندها، وذهب إلى القتال فقُتِلَ من يومه،
وهو السابع عشر من جمادى الأولى سنة 73هـ، وبذلك انتهت دولته التي استمرت
حوالي تسع سنين.
وهكذا فقد ثابر عبد الملك وصبر وجاهد
لتوطيد دعائم الدولة الإسلامية تحت قيادته ونجح في ذلك نجاحًا كبيرًا، ومن
هنا استحق عبد الملك عن جدارة لقب موحد الدولة الإسلامية أو المؤسس الثاني
للدولة الأموية، بعد معاوية مؤسسها الأول، ولم يعكر صفو عبد الملك بعد أن
حقق وحدة الدولة حوالي 73هـ إلا ثورة عبد الرحمن بن الأشعث وكانت ثورة
عارمة، ولكن عبد الملك استطاع القضاء عليها بفضل مهارة قائده الحجاج بن
يوسف الثقفي، ورباطة جأشه، فقد تمكن الحجاج بعد معارك شرسة من القضاء على
هذه الثورة سنة 83هـ.
لم يظهر عبد الملك شجاعة ومقدرة
ومهارة في القضاء على خصومه السياسيين فحسب؛ بل أظهر براعة في إدارة الدولة
وتنظيمها، وكان شبيهًا في ذلك بمعاوية في كثير من الوجوه فقد استعان بنخبة
من أمهر رجال عصره في الإدارة والسياسة مثل الحجاج بن يوسف الذي أخلص
للخليفة وبذل أقصى جهده في تثبيت أركان دولته، كما اعتمد على رجال بيته من
إخوته مثل عبد العزيز ومحمد وبشر وغيرهم، كذلك اقتدى عبد الملك بمعاوية في
مباشرة أعمال دولته بنفسه وتَصَفُّح أمورها، فكان دائم المراقبة لعماله،
ولم يكن يتوانى عن محاسبتهم مهما كانت أقدارهم؛ فحتى الحجاج بن يوسف رغم
مكانته لم يسلم من مساءلة عبد الملك له إذا قصر أو أخطأ؛ فيروى أن أنس بن
مالك كتب إلى عبد الملك يشكو الحجاج، ويقول في كتابه: لو أن رجلاً خدم عيسى
بن مريم أو رآه أو صحبه تعرفه النصارى، أو تعرف مكانه، لهاجرت إليه
ملوكهم، ولنزل من قلوبهم المنزلة العظيمة، ولعرفوا له ذلك، ولو أن رجلاً
خدم موسى أو رآه تعرفه اليهود لفعلوا به من الخير والمحبة وغير ذلك ما
استطاعوا، وإني خادم رسول الله وصاحبه، ورأيته، وأكلت معه، ودخلت وخرجت
وجاهدت معه أعداء، وإن الحجاج قد أضَرَّ بي وفعل وفعل. فلما بلغ عبد الملك
الكتاب بكى وغضب غضبًا شديدًا، وكتب على الفور إلى الحجاج بكتاب غليظ
اللهجة، فلما جاءه الكتاب تغير، ثم قال لحامل الكتاب: انطلق بنا إليه
نَتَرَضَّاه.
ولم يكن عبد الملك بن مروان يسمح لأحد أن
يداهنه أو ينافقه، أو يضيع وقته فيما لا يفيد، فقد رُوِيَ أن رجلاً سأل عبد
الملك أن يخلو به، فأمر عبد الملك مَن عنده بالانصراف، فلما خلا به، وأراد
الرجل أن يتكلم قال له عبد الملك: احذر من كلامك ثلاثًا: إياك أن تمدحني
فإني أعلم بنفسي منك، أو تكذبني فإنه لا رأى لكذوب، أو تسعى إليَّ بأحد من
الرعية فإنهم إلى عدلي وعفوي أقرب منهم إلى جوري وظلمي، وإن شئت أقلتك،
فقال الرجل: أقلني فأقاله.
وكان من جهود عبد الملك في
إرساء دعائم الوحدة والاستقرار في الدولة الإسلامية، إصدار عملة إسلامية
لأول مرة وتوحيد أوزانها، ضمانًا للعدالة.
وكانت هذه خطوة حضارية كبيرة فقد حررت اقتصاد الدولة الإسلامية من الاعتماد على العملات الأجنبية، وبصفة خاصة الدينار البيزنطي.
ومن
الأعمال الباهرة لعبد الملك تعريب دواوين الخراج، والذي كان العمل فيه
حكرًا على غير العرب، وكان هذا وضعًا شاذًا فجاءت خطوة عبد الملك لتصحح
الوضع، وتفتح المجال أمام العرب المسلمين للعمل في هذا الديوان والتدريب
على شئون المال والاقتصاد، وكانت تلك الخطوة ذات أثر حضاري كبير في التاريخ
الإسلامي.
وفاة عبد الملك بن مروان
توفي عبد الملك في
النصف من شوال عام 86هـ، وصلى عليه ابنه الوليد، ثم بُويِع له بالخلافة في
اليوم نفسه، وكان ولي العهد بعد عبد الملك هو أخاه عبد العزيز بن مروان؛
لأن أباهما أخذ لهما البيعة معًا من أهل الشام في بداية سنة 65هـ، وكان عبد
الملك قد أراد أخاه على التنازل عن الخلافة لابنه الوليد فأبى عبد العزيز
ذلك، وكاد يحدث بينهما من جَرَّاء ذلك شقاق إلا أن المشكلة حُلَّتْ بموت
عبد العزيز بن مروان قبل أخيه عبد الملك، فبايع عبد الملك لولديه الوليد ثم
سليمان.