خريطة المدينةكانت لوقعة الحرة الكثير من المقدمات المهمة والخطيرة،
فهذه الواقعة تجسد بجلاء الخلاف السياسي والاجتماعي بين الحجازيين
والأمويين. والحق أن جذور الخلاف بين الحجازيين والأمويين تعود إلى عدة
أسباب، لعل أهمها:
ما أحدثه معاوية من تغيير في منهجية
الحكم، فإن الكثيرين من الصحابة والتابعين في المدينتين المقدستين، مكة
والمدينة كانت نقمتهم على نظام معاوية الوراثي ذات دلالة خاصة، حيثُ
اعتبروا عمل معاوية في تحويل نظام الخلافة عن طابعه الراشدي، بدعة تناقض
نهج الراشدين وطبيعة الخلافة.
اعتبر سكان المدينتين
المقدستين أن صلتهم بالإسلام هي صلة أهل القضية الذين ارتبطت القضية
بحياتهم منذ ظهور الإسلام، ومن هنا كانت غيرتهم على قضية الإسلام ذات
حساسية متميزة.
وقد عارضت بعض الفئات من سكان المدينتين المقدستين، النظام الأموي لأسباب سياسية واجتماعية.
فمن
الناحية السياسية كان طموح بعض أبناء الصحابة إلى الخلافة كعبد الله بن
الزبير، سببًا في سلوك النهج المعارض. ومن الناحية الاجتماعية فإن انتقال
مركز الخلافة من المدينة إلى دمشق قد أفقد الأولى مكانتها المركزية في
العالم الإسلامي، وأفقد أغنياء الحجاز منافع كثيرة كانوا يجنونها من تلك
المكانة المفقودة، كما شُلَّ نشاطُهم الاقتصادي والسياسي، وجعلهم في عزلة
عن المسرح السياسي والاجتماعي.
علماء المدينة يلتزمون بالبيعة
التزم
الكثيرون من صحابة النبي وعلماء المدينة ببيعتهم ليزيد بن معاوية خشية
الفتنة واقتتال المسلمين فيما بينهم، ويمكن أن نجمل مواقف هؤلاء الملتزمين
بالبيعة فيما يلي:
أولاً: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
اعترض
بعض علماء المدينة على خلع يزيد بن معاوية، والخروج عليه، ولم يؤيدوا من
قام بالخروج، وقاموا بنصح إخوانهم واعتزلوا الفتنة، وكان أغلب هذا الرأي من
أهل العلم والفقه في الدين، وفي مقدمة هؤلاء الصحابي الجليل والإمام
القدوة عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- فقد اشتُهِر عنه إنكاره
على الذين رفضوا البيعة ليزيد وسعوا في خلعه، فعندما أراد عبد الله بن
مطيع الفرار من المدينة تهرُّبًا من البيعة ليزيد، وسمع ذلك عبد الله بن
عمر خرج إليه حتى جاءه فقال له: أين تريد يا ابن عم؟ فقال: لا أعطيهم طاعة
أبدًا. فقال له: لا تفعل؛ فإني أشهد أني سمعت رسول الله يقول: "من مات ولا
بيعة عليه مات ميتة جاهلية".
وعندما خلع أهل المدينة يزيد
بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده، فقال: إني سمعت النبي يقول: "يُنصَبُ
لكل غادر لواء يوم القيامة". وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله
ورسوله، وإني لا أعلم غدرًا أعظم من أن يبايع رجل على بيعة الله ورسوله، ثم
ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحدًا منكم خلعه ولا تابع في هذا الأمر إلا
كانت الفيصل بيني وبينه. فقد عارض ابن عمر من خرج من أهل المدينة لسببين:
الأول:
نقضهم البيعة، وهو يرى أنهم أعطوا البيعة عن رضا واختيار، ولم يفعلوا مثل
الحسين حيث كان موقفه واضحًا منذ البداية، ولم يُعطِ البيعة، وذلك عند ابن
عمر خيانة وغدر.
الثاني: هو تعظيم حرمة دماء المسلمين
وحرمة الاقتتال بينهم، وتزداد هذه الحرمة في الأماكن المقدسة كمكة
والمدينة، ولقد استدل ابن حجر بموقف ابن عمر السابق والأحاديث التي استشهد
بها على وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة والمنع من الخروج عليه،
ولو جار في حكمه، وأنه لا ينخلع بالفسق.
والواقع أن موقف
ابن عمر لا يدل على جواز بيعة رئيس الدولة الفاسق الظالم، ولا على تحريم
خلعه بسبب فسقه وظلمه، إنما يدل على تحريم الغدر بكل أشكاله، وفي جميع
مواضعه بما فيها غدر الأمة برئيس الدولة الذي اختارته وبايعته.
ثانيًا: محمد بن علي بن أبي طالب (ابن الحنفية):
أما
محمد بن الحنفية فلم يستجب لدعوتهم إياه بالخروج معهم على يزيد، بل جادلهم
في نفي التهم التي أشاعوها عن يزيد، ولما رجع وفد أهل المدينة من عند يزيد
مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى محمد بن الحنفية، فأرادوه على خلع يزيد
فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم
الكتاب. فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته
مواظبًا على الصلاة، متحريًا للخير، يسأل عن الفقه، ملازمًا للسنة. قالوا:
فإن ذلك كان منه تصنعًا لك. فقال: وما الذي خاف مني أو رَجَا حتى يظهر لي
الخشوع، وأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم
لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لا تعلمون.
قالوا:
إنه عندنا لحق وإن لم يكن رأيناه. فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل
الشهادة، فقال: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
[الزخرف: 86]، ولست من أَمْرِكم في شيء. قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر
غيرك، فنحن نوليك أمرنا. فقال: ما أستحل القتال على ما تريدون عليه تابعًا
ولا متبوعًا. قالوا: فقد قاتلت مع أبيك. فقال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على
ما قاتل عليه. فقالوا: فمُرِ ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا. قال:
لو أمرتهما قاتلت. قالوا: فقم معنا مقامًا تحضُّ الناس فيه على القتال.
قال: سبحان الله! آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه؟! إذًا ما نصحت لله في
عباده. قالوا: إذًا نُكْرِهُك. قال: إذًا آمر الناس بتقوى الله، ولا يرضون
المخلوق بسخط الخالق.
لما رأى محمد بن الحنفية الأمور تسير
في الاتجاه الذي لا يريده، وبدأ يظهر له سوء عاقبة تصرفات المخالفين له من
أهل المدينة حينما ترامي إلى الأسماع قدوم جيش أهل الشام إلى المدينة، قرر
ترك المدينة وتوجه إلى مكة، وسار أهل بيت النبوة على هذا المنوال ولزموا
الطاعة، ولم يخرجوا مع أهل المدينة ضد يزيد؛ فعلي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب لم يخرج مع أهل المدينة ولزم الطاعة ليزيد.
ثالثًا: النعمان بن بشير الأنصاري:
أما
الصحابي الجليل النعمان بن بشير فقد كان أثناء خروج أهل المدينة بالشام،
فاستغل يزيد فرصة وجوده بها فأرسله إلى أهل المدينة لعله يُفلح في صدهم عن
الخروج، ويعيدهم إلى الطاعة ولزوم الجماعة، فاستجاب النعمان لذلك وقَدِمَ
المدينة فجمع عامة الناس، وأمرهم بالطاعة ولزوم الجماعة، وخَوَّفهم الفتنة
قائلاً: إنه لا طاقة لكم بأهل الشام. فقال له عبد الله بن مطيع: ما يحملك
يا نعمان على تفريق جماعتنا، وفساد ما أصلح اللهُ من أمرنا؟ فقال النعمان:
أما والله لكأني بك لو قد نزلت تلك التي تدعو إليها، وقامت الرجال على
الركب تضرب مفارق القوم وجباههم السيوف، ودارت رحى الموت بين الفريقين قد
هربت على بغلتك تضرب جبينها إلى مكة، وقد خَلَّفتَ هؤلاء المساكين -يعني
الأنصار- يُقتَلُون في سِكَكِهم ومساجدهم وعلى أبواب دورهم. فعصاه الناس،
فانصرف، وكان والله كما قال.
رابعًا: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما:
كان
عبد الله بن جعفر بالشام -أيضًا- عندما عزم يزيد أن يبعث جيشًا إلى
المدينة، فحاول عبد الله بن جعفر أن يتدخل في الأمر ليجنب أهل المدينة شر
القتال، فكلم يزيد وطلب منه الرفق بأهل المدينة ورققه عليهم، وقال: إنما
تقتل بهم نفسك. وقد تجاوب معه يزيد حين قال: فإني أبعث أول جيش وآمرهم أن
يمروا بالمدينة إلى ابن الزبير، فإنه قد نصب لنا الحرب ويجعلوها طريقًا ولا
يقاتلوهم، فإن أقرَّ أهل المدينة بالسمع والطاعة تركهم. وقد وجد عبد الله
بن جعفر مدخلاً لكف القتال والأذى عن أهل المدينة؛ فكتب على الفور إلى
زعماء أهل المدينة يخبرهم بذلك، ويقول: استقبلوا ما سلف واغنموا السلامة
والأمن ولا تعرضوا لجنده، ودعوهم يمضون عنكم. فكان ردهم عليه: لا يدخلها
علينا أبدًا.
خامسًا: سعيد بن المسيب رحمه الله:
أما
سعيد بن المسيب فقد اعتزل فتنة خروج أهل المدينة ولم يدخل فيما دخلوا فيه،
ولم يكن يحضر لهم أمرًا من أمورهم إلا الجمعة والعيد، وقد لزم المسجد نهاره
لا يبرحه إلى الليل والناس في قتالهم أيام الحرة.
انتهت
موقعة الحرة بهزيمة أهل المدينة هزيمة ساحقة قُتِلَ فيها خَلْقٌ كثير من
القادة ووجوه الناس، ولم يخفِ مروان أسفه على ابن حنظلة، ومحمد بن عمرو بن
حزم، وإبراهيم بن نعيم بن النحام، وغيرهم بل كان يثني عليهم ويذكرهم بأحسن
صفاتهم التي اشتهروا بها، وكان القتل ذريعًا في المدنيين، وقد شبهتهم
الرواية بنعام الشرد، وأهل الشام يقتلونهم في كل وجه، وقد قتل في هذه
المعركة عدد من الصحابة رضوان الله عليهم، ويشهد لذلك ما ذكره سعيد بن
المسيب حينما قال: وقعت الفتنة الأولى -يعني مقتل عثمان- فلم تُبقِ من
أصحاب بدر أحدًا، ثم وقعت الفتنة الثانية -يعني الحرة- فلم تُبقِ من أصحاب
الحديبية أحدًا، ثم وقعت الثالثة فلم ترتفع وللناس طباخ (أي لم تبق من
الصحابة أحدًا).
وقد أورد خليفة في تاريخه قوائم بأسماء
قتلى الحرة ثم قال: فجميع من أصيب من قريش والأنصار ثلاثمائة رجل وستة
رجال، وقد تابعه على ذلك أبو العرب، والأتابكي. وهناك رواية مسندة عن
الإمام مالك قال فيها: إن قتلى الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن. وقال
الراوي: وحسبت أنه قال: وكان معهم ثلاثة أو أربعة من أصحاب رسول الله .
ورواية مالك أقرب إلى الصحة من الذي ذكره خليفة.
ابن الزبير وخلع الخليفة
وكانت
حادثة كربلاء الشرارة التي أشعلت الحرب وقد شكلت صدمة لأهل الحجاز، كما
تركت آثارًا سياسية خطيرة في العالم الإسلامي، وما أكثر ما تحدث المسلمون
في مجالسهم، عن إمعان يزيد في الابتعاد عن الدين، حتى أضحى خَلْعُه واجبًا،
وبالفعل خرج أهل المدينة على حكمه.
فعندما وصل خبر مقتل
الحسين بن علي -رضي الله عنهما- إلى الحجاز أعلن عبد الله بن الزبير -رضي
الله عنهما- خلع يزيد، وبدأ يأخذ البيعة لنفسه من الناس في مكة، وكان ذلك
سببًا في عزل عمرو بن سعيد بن العاص عن الحجاز، وتولية الوليد بن عتبة بن
أبي سفيان مكانه، ثم لم يلبث أن عزله وأَمَّر عثمان بن محمد بن أبي سفيان،
وكَثُرَ الحديث في المدينة عن يزيد، فأرسل إليهم النعمان بن بشير يحذرهم
الفتنة، ويذكرهم الطاعة، فأبوا عليه، ثم أعلنوا خلع يزيد، وبايعوا عبد الله
بن حنظلة الغسيل، ووثبوا على عثمان بن محمد بن أبي سفيان، والي يزيد، ثم
حاصروا بني أمية في دار مروان بن الحكم، وكان عددهم حوالي الألف شخص.
فلما
علم يزيد بن معاوية بذلك رسل إليهم جيشًا عليه مسلم بن عقبة المري، وإن
حدث له حدث فالأمير من بعده الحصين بن نمير السكوني، وأقبل مسلم بن عقبة
بالجيش، والتقى ببني أمية بوادي القرى، وقد أخرجهم أهل المدينة.
وصل
مسلم بن عقبة المري إلى المدينة فأمهل أهلها ثلاثة أيام فأبوا إلا القتال،
وكان عليهم: عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري، وعبد الله بن مطيع، ومعقل
بن سنان، وعبد الرحمن بن زهير بن عوف الزهري ابن أخي عبد الرحمن بن عوف،
وكان مجيء مسلم عن طريق الحرة الشرقية، ووقعت الوقعة وكانت في أواخر ذي
الحجة من سنة ثلاث وستين للهجرة، وقُتِلَ أكثر سادة أهل المدينة في هذه
الوقعة.
حصار مكة ووفاة يزيد
وعندما انتهى مسلم بن عقبة
المري من المدينة اتجه بجنده نحو مكة يريد عبد الله بن الزبير، وخلف على
المدينة روح بن زنباع الجذامي، ولم يقطع مسلم مسافة حتى نزل به الموت،
فتولى أمر الجند بعده الحصين بن النمير السكوني حسب وصية يزيد بن معاوية
فسار إلى مكة، وقد بايع أهلها والحجاز كله عبد الله بن الزبير، فقاومه ابن
الزبير وقُتِلَ من أصحابه المسور من مخرمة، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف،
وأخوه المنذر بن الزبير، واستمر القتال بقية المحرم وصفر من سنة أربع وستين
وفي أوائل ربيع الأول قُذِفَ البيت بالمنجنيق، وأُحْرِقَ بالنار، ثم جاءهم
نعي يزيد في مطلع ربيع الثاني، وقد توفي في 14 من ربيع الأول.
توفي
يزيد وأهل الشام يحاصرون أهل مكة وابن الزبير، ووصل الخبر إلى ابن الزبير
قبل أن يصل إلى أهل الشام، فناداهم أهل مكة: لماذا تقاتلون؟ لقد هلك يزيد،
فلم يصدقوا منهم، واستمروا في قتالهم، فلما تأكدوا من النبأ توقفوا عن
القتال.
بعث الحصين بن نمير إلى عبد الله بن الزبير،
والتقى معه، وقال له: إن يك هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر،
هَلُمَّ فلنبايعك، ثم اخرج معي إلى الشام، فإن هذا الجند الذين معي هم وجوه
أهل الشام وفرسانهم، فوالله لا يختلف عليك اثنان، وتُؤَمِّن الناس، وتهدر
هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك، والتي كانت بيننا وبين أهل الحرة. ولكن
ابن الزبير خشي من الذهاب إلى الشام، ولم يرغب في مغادرة مكة التي احتمى
بها، وكان رأي الحصين أن هناك بالشام من يطالب بالخلافة، فماذا يكون موقفه؟
أما إذا ذهب عبد الله بن الزبير فإنه لن يطالب فيها أحد لمكانة ابن الزبير
أولاً، ولعدم وجود أبناء كبار ليزيد أو أحد من أسرته يفكر في هذا الأمر.
ولما لم يتفق ابن الزبير والحصين بن نمير، سار جيش الشام إلى بلدهم تاركين الحجاز مبايعًا لابن الزبير.
موقعة الحرة.. شبهات وردود
لقد
وردت بعض المبالغات في تقدير عدد القتلى من المدنيين فهناك رواية عن
الواقدي تذكر أن عدد القتلى بلغ عشرة آلاف، وأصيب بها نساء وصبيان بالقتل،
والسند عن الواقدي وهو متروك، ثم إنه عُورِض بسند أصح منه وهي رواية مالك،
فتعتبر رواية الواقدي رواية منكرة لا يعتمد عليها في تقدير عدد القتلى،
ولقد أنكر ابن تيمية صحة ما ذكره الواقدي، واستبعد أن يصل العدد إلى هذا
الحد.
كما اشتهر أن مسلم بن عقبة المري أمر بانتهاب
المدينة؛ فمكثوا ثلاثة أيام من شهر ذي الحجة ينتهبون المدينة حتى رأوا هلال
المحرم فأمر الناس فكفوا.
وتعتبر رواية نافع مولى ابن عمر
هي أصح رواية نصَّت على حدوث الانتهاب، فقد قال: وظفر مسلم بن عقبة بأهل
المدينة وقُتلوا وانتُهِبت المدينة ثلاثًا، وقد وردت لفظة الاستباحة عند
السلف لتعني النهب، كما ورد على لسان عبد الله بن يزيد بن الشخير حين قال:
ولما استُبيِحَت المدينة -يعني الحرة- دخل أبو سعيد الخدري غارًا. ومن هنا
يعلم أن الاستباحة والنهب جاءت بمعنى واحد، حيث جاءت هاتان اللفظتان في
غالب المصادر المتقدمة.
وقد حمَّل الإمام أحمد -رحمه الله-
مسئولية انتهاب المدينة يزيد بن معاوية كما ذكر الواقدي: أن أهل الشام
نتفوا لحية أبي سعيد الخدري انتقامًا منه، ولكن هذا لم يرد من طريق صحيحة،
ولكن الشيء الذي يجب التنبه إليه هو أن النهب لم يشمل كل أهل المدينة، فلم
نسمع أن ابن عمر قد انتُهِبت دارُه، أو علي بن الحسين، أو غيره من الذين لم
يقفوا بجانب المعارضين، وإنما كان الانتهاب في الأماكن التي يدور فيها
القتال، وتُعرَف بالمعارضة للحكم الأموي.
أما ما ذُكِرَ
حول انتهاك الأعراض أثناء وقعة الحرة فيقول د. علي محمد الصلابي: لم نجد في
كتب السنة أو في تلك الكتب التي أُلِّفَتْ في الفتن، وكذلك لم نجد في
المصدرين التاريخيين المهمين عن هذه الفترة وهما (الطبري والبلاذري) أي
إشارة لوقوع شيء من ذلك، وهما قد اعتمدا على روايات الإخباريين المشهورين
مثل: عوانة بن الحكم، وأبي مخنف لوط بن يحيى الشيعي، وغيرهما.
ثم
يستطرد د. الصلابي في حديثه قائلاً: إن انتهاك أعراض نساء المدينة لا أساس
له من الصحة، وإنها روايات جاءت متأخرة، وبدافع حزبي بغيض يتخذ من الكره
والتعصب ضد التاريخ الأموي دافعًا له، وتهدف إلى إظهار جيش الشام -الذي
يمثل الجيش الأموي- جيشًا بربريًّا لا يستند لأسس دينية أو عقائدية أو
أخلاقية، وهذا الاتهام لا يقصد به اتهام الجيش الأموي فقط، بل إن الخطورة
التي يحملها هذا الاتهام تتعدى إلى ما هو أعظم من مجرد اتهام الجيش الأموي،
إلى اتهام الجيش الإسلامي الذي فتح أصقاعًا شاسعة في تلك الفترة.
وقد
ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى إنكار ذلك مثل د. نبيه عاقل، ود.
العرينان، ود. العقيلي، وكذلك فلهوزن، وقام الشيباني بدراسة عميقة حول
الموضوع وأثبت بطلان هذه الأكاذ