علاقة العلماء بخلفاء بني أمية
علاقة العلماء بخلفاء بني
أميةزخر العصرُ الأموي بكثير من العلماء على امتداده الزماني والمكاني،
يأتي في طليعتهم جيل الصحابة الكثيرين الذين عاصروا هذه الدولة، وتركوا
آثارًا واضحة على الحياة السياسية والاجتماعية فيها، وجيل التابعين الذين
أخذوا عنهم، وورثوا منهم، ونشروا علومهم وتراثهم.
ونلاحظ
أن أبرز الخلفاء الأمويين كانوا من العلماء، بل من كبارهم وسادتهم مثل:
معاوية بن أبي سفيان الصحابي الجليل كاتب الوحي ومن لا يُنكَر علمه
وحِلمُه، ومروان بن الحكم وابنه عبد الملك بن مروان، وعمر بن عبد العزيز،
وغيرهم.
وكان كثير ممن يحوط هؤلاء الخلفاء من العلماء
والفقهاء الذين لم يقتصر دورهم على تعليم العلم وتدريسه، بل مارسوا
السياسة، وعرفوا طرقها، فقلل ذلك من شهرتهم في مجال الفقه والدرس، وإن
ظَلَّ بعضهم يحتفظ بمكانته في ذلك الميدان ومن هؤلاء العلماء بعض الصحابة
الذين كانوا قريبين من معاوية أثناء حكمه، مثل: حبيب بن مسلمة الفهري،
والنعمان بن بشير الأنصاري، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص، ومسلمة بن
مخلد الأنصاري، وفضالة بن عبيد الأنصاري، وغيرهم -رضوان الله عليهم- كما
كان من القريبين من معاوية بعض أبناء الصحابة الأعلام، مثل: الحسن والحسين
ابني علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وابن الزبير .
ومن
جيل التابعين اشتُهِرَ من العلماء في العصر الأموي جماعة من النابهين لا
يُحْصَوْن كثرة، مثل: خارجة بن زيد بن ثابت، والقاسم بن محمد بن أبي بكر،
وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وسالم بن عبد الله بن عمر بن
الخطاب، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، ونافع مولى عبد الله بن عمر،
وعاصم بن عمر بن قتادة، ومحمد بن كعب القرظي، وسعيد بن يسار، وسعيد بن
المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وابن سيرين، والزهري، والشعبي،
ورجاء بن حيوة، وعطاء بن رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وميمون بن مهران،
وطاوس اليمني، وكثير غيرهم.
وبعض هؤلاء العلماء من
التابعين كانوا من القريبين من الحكام ومن المشيرين عليهم، والواعظين لهم،
والناصحين والمنكرين عليهم. كما تولى بعض هؤلاء العلماء وظائف الحكم
والإدارة والقضاء، وكان بعضهم بمنزلة الوزراء والمشيرين عند بعض الخلفاء،
رغم تعدد محاولات بعض هؤلاء العلماء الفرار من قربهم من الخلفاء، وكانت
مكانة الآخرين عظيمة عند بني أمية حتى كان عبد الملك بن مروان يقول: إني
لأهمّ بالشيء أفعله بأهل المدينة لسوء أثرهم عندنا؛ فأذكر أبا بكر بن عبد
الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي فأستحي منه، فأدع ذلك الأمر.
وكان
عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يريد أن ينقل الخلافة إلى أحد هؤلاء
العلماء البارزين القاسم بن محمد بن أبي بكر أو ميمون بن مهران، وحرص هشام
بن عبد الملك على أن يصلي على اثنين من هؤلاء العلماء تصادفت وفاتهما أثناء
رحلة حجِّه: طاوس اليمني، وسالم بن عبد الله بن عمر.
إن
هذه المكانة الرفيعة التي نالها العلماء في العصر الأموي لا تنفي أن بعضهم
كان ينتقد الحُكم الأموي أو يثور عليه، وأن عددًا منهم قد لقي في عصرهم
إساءةً أو تعذيبًا، ولكن ظلت هذه الإساءات محصورة في نطاق ضيق دائمًا،
ومعظمها كان من نصيب هؤلاء الخارجين على سلطان الدولة والمشايعين لأعدائهما
مثلما حدث مع سعيد بن جبير، وعبد الرحمن بن أبي ليلى اللذين شاركا في ثورة
ابن الأشعث فقتلهما الحجاج، وقد تكرر الأمر نفسه -فيما بعدُ في العصر
العباسي- على نحو أشد، فلقي بعض البارزين من عظماء علماء الإسلام عنتًا
وتعذيبًا كأبي حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وغيرهم.
ولم
تقتصر رعاية الأمويين العلم على رعاية العلماء وإجلالهم، وإنما امتدت
لتترك آثارًا خالدة على تطور بعض العلوم الإسلامية ذاتها، حيث كان لبني
أمية دور بارز في ازدهارها ونموها، كما سنرى فيما بعد إن شاء الله تعالى.
العلماء والجماهير
وكما
كانت تأثيرات العلماء ومعارضتهم الأمويين أحيانًا، أو قربهم منهم أحيانًا
أخرى دليلاً على حيوية هذه الجماعة وتأثيرها الكبير في المجتمع الإسلامي،
فقد كان التصاقها بالجماهير وتعلق الناس بها وتجاوبهم معها دليلاً آخر على
أن المجتمع الإسلامي في العصر الأموي لم يكن على ما يصوره بعض المؤرخين
لهوًا وعبثًا، فإنه لما توفي طاوس اليمني بمكة، وصلَّى عليه هشام بن عبد
الملك، لم يتهيأ إخراج جنازته لكثرة الناس حتى وجَّه أمير مكة بالحرس، ولقد
كان عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي يضع سرير طاوس على كاهله، وقد سقطت
قلنسوة كانت على رأسه، ومُزِّق رداؤه من خلفه.
ولما مات
الحسن البصري تتبع الناس جنازته، حتى لم تقم صلاة العصر بالمسجد الجامع
بالبصرة في وقتها لانشغال الخلق بدفنه، وما علم أنها تركت منذ كان الإسلام
إلا يومئذ.
وامتد نشاط الحركة العلمية وتأثير العلماء
آنذاك إلى شتى أنحاء الدولة الإسلامية، ففي خراسان "كان الضحاك بن مزاحم
الهلالي صاحب التفسير الفقيه له مكتب عظيم فيه ثلاثة آلاف صبي، وكان يركب
حمارًا يدور عليهم إذا أعيا".
يتأكد لنا من خلال عرضنا
السابق مدى المكانة المشرفة التي نالها علماء الإسلام في ظلِّ الخلافة
الأموية، فبين الحكام والجماهير عاش العلماء حياة يسودها الاحترام والمودة
والقربى؛ ولذلك لا نعجب إذا علمنا أن الخلافة الأموية كانت من أجلّ
الخلافات التي جاءت في تاريخ الإسلام رغم المدة القليلة التي عاشتها هذه
الدولة، إذ لم تتجاوز قرنًا من الزم